ريم قيس كبة في (مساء الفيروز)

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
29/09/2016 06:00 AM
GMT




النساء الشواعر في العراق كنّ كثيرات ممن اتخذن من الوطن مسكناً دائماً لهنَّ، حفيدات «اخدوانا» الشاعرة الأولى في العالم، ابنة سرجون الأكادي، ولكن في الأزمنة الحديثة، أزمنة الديكتاتوريات والحروب والقتل الأعمى، صرن يبحثن مثل غيرهن من شاعرات العالم، عن عوالم جديدة، فيها قدْر من الاحترام لما يكتبن وقدر آخر لإنوثتهن، وقدر للمفاهيم والتصورات التي يحملن ويحلمن بها. أعني تلك الرؤى العابرة للخطوط الحمر والمسكوت عنه والمحرّم في التدوينة الشعرية والنص العراقي الحديث. فبعد سقوط النظام السابق وقبله بقليل تفرّق شملهنّ ولم يعد بمستطاعهنّ مجاراة الوضع القائم في العراق، هذا الذي يفرض القيود على الكلمات ويفرض الرقابة ويحصي تطلعاتهنّ إلى عالم الأنوار والمناداة بحرية غير مغلولة، تفتش في باطن الكلمات عن المعاني المقلقة التي تدين عالم الانغلاق وتدهور الحريات الشخصية، وبالأخص شؤون المرأة ورؤيتها العصرية، هذه الرؤية التي لم تعد تتواءم والعالم الذكوري وخطابه العنيف الناهل من رؤية دينية بحتة، تتماثل وتتلاقى في الكثير من الأحيان مع الرؤية الداعشية العنيفة والجاهلية تجاه عوالم المرأة العراقية. أيّ ظلم ماحق وكبير هذا الذي تعيشه الآن الشاعرة والأديبة والفنانة العراقية، الغائبة والمغيّبة قسراً عن المشهد الأدبي والثقافي والفني؟
من هنا ليس غريباً أن تشهد الساحة العراقية الثقافية بكل حقولها المعرفية، الأدبية والفنية، هجرة مستمرة للفنانات التشكيليات والمغنيات والأديبات ولا سيما الشاعرات منهنّ، فهجرة أسماء مثل أمل الجبوري ودنيا ميخائيل ونجاة عبد الله وريم قيس كبة مع صحبهنّ من الشعراء الشباب الجدد عن عوالم الوطن والطفولة ومواقع المكان الأول، يعد هجرة واسعة تنضاف إلى تلك الهجرات التي طاولت أجيالاً عراقية كثيرة ستينية وسبعينية وحتى ثمانينية. وقد تجسّد ذلك وعلى نحو جليّ في عراق اليوم، عراق الاحتلال والميليشيات والفوضى الخلاقة، عراق الديمقراطيات الأمريكية المزيّفة التي جلبتها أمريكا لرجال الدين الذين يتحكمون بالصغيرة والكبيرة، ويمقتون أشد المقت مفردات عصرية صنعتها الحداثة الأوروبية، مثل عالم الأنوار، عالم الحريات الشخصية، الليبرالية، العلمانية، النقد الحر، التغيير، العيش المشترك، التآخي المذهبي، الإيمان بديانات الآخر وعاداته وتقاليده التاريخية، وغيرها من القيم الإنسانية والمفاهيم الحديثة.
لقد اتسعت جغرافيا الهجرات وتمددتْ، لتنضاف اليها وجوه جديدة، من عالم الترحال والهجرة، فإذا كان الجيل الستيني كله في الخارج منذ عهد البعث ومجيئهم إلى السلطة في نهاية الستينيات وتصاعد منسوب الهجرة، في نهاية السبعينيات والثمانينيات، لكي يلتحق بهم الجيلان الشعريان السبعيني والثمانيني، وما ظهر من طلائع التسعينيات من الشعراء الجدد ، كل هذا حدث لكي يكتمل النصاب للجهل المنظم، ويفرغ العراق من مبدعيه وفنانيه وكتابه الخلاقين وشعرائه المعروفين والمميّزين، عراقياً وعربياً.

أمثولة الوطن

عطفاً على ما أنف، وتحدياً للواقع أعلاه، رأينا الكثير من الشاعرات استأنفن الكتابة الإبداعية الحرة، مجارين بذلك الشعراء والشاعرات في كل العالم العربي في قول ما يبتغين وينشدن من صور ورؤى ورموز وتشريقات وتهدجات عشقية، إن كانت في حب من يحببن أو في حب المكان الغائب والأول والبحث عن ذلك الوطن الذي كان في يوم ما وطناً، يحتضن الجميع ويسع الجميع ولا يفرّق بين مبدعيه وفنانيه ويحاسبهم حسب هويتهم الدينية والمذهبية والسياسية ويفرزهم وفق حسبته الطائفية، أو يطاردهم لقول ما قالوه في قصيدة أو لوحة أو تغريبة غنائية ـ أو في مقالة صحافية، والأمثلة على ذلك كثيرة ويعرفها طيف كبير من الأدباء والفنانين والشعراء.
تحت سماء هذا الاغتراب وجدنا كتابات ونصوصاً كثيرة تحن إلى الوطن وتتغزّل بمائه وترابه، وشجره ونداه ومناخه، وطيبة أهله وسكانه الأصليين الذي باتوا رهائن في عالم انعدام الأمن والحياة العادية.
ولعل هذه الأمثولة التي متحت من أفق الوطن وألوانه يمكن أن نراها ونتلمسها في هاتيك الكلمات الأنيقة والمقتضبة والمرهفة، تلك الكلمات التي جسّدتها الشاعرة ريم قيس كبة في ديوانها الجديد «مساء الفيروز» وهو عبارة عن قصائد إنشادية تتألف من ترسيمة واحدة يتعانق في أفقها الوطن والحبيب. قصائد ريم قيس كبة عبارة عن سونيتات مُنغّمة وموتيفات رشيقة ينعدم فيها السديم البلاغي، كونها كتبت بروح رقيقة، هدفها الوضوح والسلاسة والأبعاد الفاتنة. لا خشونة في القول والمنطق، وليس ثمة تلغيز وتعمية وارتباك في الكتابة، بل ثمة حس رهيف هنا يتقدم بين سطور مجموعتها. إنها كتابة تحذف وتُزيل وتمحو، لكي تتقشف في بلاغة الصورة وحمولاتها الرمزية وثقلها المفرداتي، وصولاً إلى الصياغة التركيبية الموجزة في سياق بنيتها التعبيرية، وحتى الموسيقية. فريم قيس، وهو اسم شاعري وموسيقي، اعتنت عناية لافتة في اختيار الموسيقى الملائمة لقصيدتها الموزونة. إن الوزن كما أرى من زاويتي يشذب القصيدة ويخلصها من الإطناب والتداعيات البرّانية، فاعتمدت البحور اللينة والرخيمة والعروض الواضح، لكي يتناغم البناء اللغوي ويعطي ذلك الهارموني مع السياق الموسيقي المبني بحرفة عالية ومتقنة في ديوانها «مساء الفيروز».
هو حقاً مساء فيروزي، ناعم وميال إلى أن يكون ذا طبيعة غنائيةـ وتارات يغدو رومانسياً في جانب كبير من الكتاب. حب التماهي مع الآخر والذوبان فيه، من أجل الوصول إلى التسامي والانجراف في الغَيرية وتذويب الأنا في المحبوب وتخليص الذات النرجسية من صورتها الأولى والتذويت المصاحب لها لتمسي الصورة حلولية، وذات إبدال وتحوّل من الأنَويّة المركزية صوب النزوع تجاه الآخر والنزول على ذاته الجوانية، لكي تصبح واحدة وملتحمة ومتخلصة من سطوة الأنا والذات بصورتها النرسيسية.
من هنا يكون الوطن هو صورة أخرى للحبيب، بحيث يصعب التمييز وفك هذا التلاحم والتماهي في جوانب الوطن، كونه عالماً غائباً وبعيداً، فيحضر كبديل منه المُحب والحبيب والمحبوب الذي هو الإكسير والنظير للبلاد المفقودة:
«لعطرك رائحة الشطّ عند ضفاف الوطن
للمس الأبوة من كفك الثرِّ دفء الوطن
للمدامع تلمع في مقلتيك حنين الوطن
لرحيقك للقبلة المستفيضة من شفتيك
لريقك طعم الوطن» .
في ثيمتي الوطن والحبيب تتداخل عناصر شبكية توشّج النص وتضفره في نسيج يندغم معه عنصر الحرب التي تتربص بالوطن وتحاول تهشيمه والحط من بنيته الجمالية، كقولها:
«فلنجرّبْ بأن نستقيل من الحربِ
أن نودّع الذكريات
على باب منفى
وندخلُ غربتنا آمنين» .
الحرب تأتي هنا كعامل آخر يضيف لهاجس المنفى الغربة والشعور بالحنين الدائم
إلى ذلك المكان المسمى وطن، والمفقود بعد رحلة طويلة في المنافي العربية والأجنبية، لذا يمكن تلمس ذلك في هذا التكافل الفني، فالشاعرة تنادي قائلة:
«حبيبي هناكْ
فيا بعدُ رفقاً به
يا البلادُ التي لن تكون على بعدِ عينٍ من الشوقِ مني
توسّلتُ أن ترفقي بحبيبي»، من قصيدة دعاء .
إنها بدعائها هذا تحاول أن تحمي حبيبها في بلاد حربية، تخرج من حرب لتدخل في أخرى، والحبيب هناك ماثل بين الشظايا وصوت القنابل:
«تشظيتَ مثل القنابلِ
في كل أرض جسدْ
أدمنتك الحروبُ
ولم تدمن الموتَ
لم تدمن البعدَ
لما تزلْ
تمسح الدَمَعاتِ
على خدَّ صمتكَ
ما أن تمرَّ بطيف لذاك البلدْ» من قصيدة غربة .
فضلا عن ذلك، فريم قيس تجيد على نحو ملحوظ الخاتمة، ومن مميزات الخواتيم، هي تلك الصعقة الجمالية أو الضربة اللازبة أو الصدمة غير المتوقعة في فن القول وتعبيره، ومن هذه الخواتيم الشعرية التي تحفّز على الدهشة قولها هذا:
«وأقرأ في كلّ وجهٍ أراهْ
ملامحَ وجهكَ
حيناً بصدقٍ
وحيناً بقصد المجازْ
فأحفظ درسي
أجيبُ على كلِّ حرفٍ تحيَّرَ
في أمِّ رأسي
وتأتي النتيجة عاشقة بامتياز».
وكما هو معروف فإن من مميزات الشعر الجميل الاقتصاد في المناحي اللغوية للعمل وعدم الإسهاب والاستطراد والاستطالة في بناء الجملة الشعرية، أما إذا انضاف اليه فن حسن الخاتمة فسيلقى العمل الشعري القبول لدى متذوّقيه ومحبّي هذا النوع من الفن.
وحين نتحدث عن فن التقطير اللغوي يظهر فن التشذير لدى الشاعرة لا سيّما انها تتقن تنظيف القصيدة من ورمها الكلامي لتقول:
«استميحك صبراً
فقد لا أجيءُ
سوى في القصيدة» .
وفي مكان آخر تقول:
«لمن أتعطرْ
تعطرتُ بالشوقِ
حتى تعودَ
فلا تتأخّرْ» .
وفق هذه النبرة العذبة، مرّرتْ ريم قيس كبة تجارب البوح والهيمان بالآخر، إن كان وطناً أو حبيباً، فهما هنا كائنان متماهيان، ملتصقان تارة، ومنفصلان في أحوال ومقامات أخرى. الحلولية صفة بارزة في هذه الأشعار المرنانة، الوطن يحل في الكيان ويسمو، ليغدو قطعة من جسد الكائن البشري، وكذلك الذات الشاعرة تمحو ذاتها لتتداخل وتتجوهر في روح الوطن الكامن في التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية في المنفى، وفي مواطئ الاغتراب.
ريم قيس كبّة: «مساء الفيروز»
دار الحكمة، لندن 2014
140   صفحة